1. مقدمة:
لقد تبين بعد دراسة عميقة وطويلة لقانون المسطرة الجنائية المغربي ومقارنته مع مثيله الفرنسي الذي يعتبر مصدره المباشر ، أن المملكة المغربية تحظى خلافا لما يعتقده الكثيرون بقواعد قانونية يمكن لكل مغربي أن يفتخر بها. ويتجلى ذلك في احترام حريات المواطنين وعدم الاعتداء عليها وتقديس حرمة المسكن وحرية التجول وتخصيص نصوص قانونية تحدد حالات اعتقال المشبوه فيهم وتفتيش المنازل والحد من الحريات.
وقد قدس القانون مبدأ الأصل براءة الذمة وكلف النيابة العامة بمساعدة الهيئات التي تراقبها أو تسيرها – بجمع الحجج في حين لا يأتي الظنين بحجة براءته بل يكتفي بالرد على مزاعم النيابة العامة .
ومن بين الوسائل التي تستعملها النيابة العامة في هذا المضمار كل ما تقوم به الشرطة القضائية بتقديمه إليها من محاضر وتقارير وأشياء وخبرات تدعم بها المتابعة وتساند بها مراجعة الظنين ومن يؤازره أمام المحكمة.
وهكذا نجد أن الشرطة القضائية تعمل جاهدة قامة الدليل على ارتكاب فعل إجرامي بواسطة ما تعاينه ( المعاينات) وما تتلقاه ( التصريحات) وما تقوم به من عمليات ( تفتيشات ومواجهات ومراقبات ..الخ) وتترجم ذلك عن طريق المحاضر.
ولهذا يتعين أن نقوم بدراسة مختلف محاضر الشرطة القضائية وتحليلها وإبعاد كل ما يمكن أن يحوم حولها من التباسات مرورا بمحاضر التصريحات ثم المعاينات ثم التفتيشات إلى المواجهات و التعرفات و والمراقبات و التتبعات.
التصريحات:
إن الفصلين 291 و 292 من قانون المسطرة الجنائية حددا القيمة الإثباتية للمحاضر التي يقوم بإنجازها ضباط الشرطة القضائية وجعلاها تنقسم إلى قسمين:
يوثق بمضمنها ما لم يأت الدليل على إثبات العكس. ولهذا فإن ما يسجله ضابط الشرطة القضائية من تصريحات متعلقة بالمخالفات والجنح لا يمكن أن يتخلص من مضمنها الذي يتعين على القاضي أن يثق به إلا بالإتيان بدليل قاطع يثبت خلاف ذلك. وإن الأمر يكاد يكون مستحيلا ولكنه ممكن في بعض الأحيان ولهذا فإن قاضي في كثير من الحالات لا يغامر في تكوين اقتناعه الصميم بما يدعيه صاحب الطعن في محضر الشرطة القضائية بل يعتبر ما جاء في هذا المحضر حجة على المتهم الذي يطالب عند إعطائه الكلمة في المرحلة الأخيرة من المناقشات في الجلسة أن يأتي بدليل ما يدعيه فإن فعل يبحث القاضي هذه الوسيلة وإلا فيكتفي بما جاء في المحضر.
غير أن الشرطة القضائية عندما تكون بصدد إنشاء هذه الوثيقة الهامة تجعل دائما نصب أعينها أنها تخدم الصالح العام وذلك بإظهار الحقيقة الذي يظل شغلها الشاغل. لذا فإنها من أول إجراء تقوم به تعمل على تطبيق ذلك بالبحث عن العناصر الضرورية إما لتصديق ما قيل لها أو الشك فيه. ذلك أنه لو تقدم مواطن أمام ضابط الشرطة القضائية لتسجيل شكاية من أجل فعل يعد جنابة أو جنحة أو مخالفة ، لا بد لهذا الضابط أن يكون ملما إلماما دقيقا بعناصر الفعل الجنائي المذكور ، حتى لا يقع في الخلط من جهة، ومن جهة أخرى ، فإن عليه أن يسجل في تصريح المشتكي عبارات وكلاما من شأنه أن يفيد بصراحة وبدون أي إبهام أن الشكاية تنصب على جريمة تتوفر على أركان الجريمة بمفهوم القانون الجنائي العام، وعناصرها الخاصة بمفهوم القانون الجنائي الخاص أو النصوص الخاصة.
ولكي نستطيع إدراك ذلك لا مناص من المرور بأمثلة ملموسة نسلط بواسطتها الأضواء على هذا.
ففي حالات السرقة يجب أن يحتوي محضر الشكاية على كلام يستفاد منه أن شيئا
ا مملوكا للمشتكي وقع الاستيلاء عليه عمدا. وفي القتل مثل ذلك حيث يجب أن يظهر جليا أن إزهاق روح بشرية قد وقع عمدا. وفي الاغتصاب أن اتصالا جنسيا عن طريق الفرج قد وقع على امرأة بدون رضاها.
وزيادة على ذلك فإن ضابط الشرطة القضائية مطالب بالبحث أثناء تحرير هذا التصريح ، عن كل الجزئيات كي يستعملها أثناء مقارنة تصريح المشتكي مع باقي العناصر التي سوف يحصل عليها أثناء البحث ليتبين له المكان الذي يوجد فيه الشك أو يوجد فيه اليقين . فهو أثناء التصريحات يجهد نفسه في الحصول على العناصر المكونة للجريمة، ونفس الأمر أثناء المعاينات و التفتيشات والإجراءات الأخرى . وهذا أمر ليس بالهين حيث يتطلب مجهودا فكريا كبيرا ودراية معمقة في الحقوق الشرطية ( قانون المسطرة الجنائية و القانون الجنائي و النصوص الخاصة) زيادة على تقنيات البحث ومعلومات كثيرة في التشخيص القضائي والعلوم الأخرى المساعدة للقانون الجنائي.
فكيف إذن للقاضي أن لا يعتمد على محضر جمع فيه ضابط الشرطة القضائية كل هذه المعطيات ، ووظف فيه جميع ما يكون به اقتناع القاضي حيث أن كل كلمة واردة في المحضر لها وزنها وقيمتها ولا يمكن أن يرد فيه ما يخالجه من شعور أو ما يعبر به من عواطفه الخاصة في القضية المعروضة على البحث.
المحاضر التي تنجز في موضوع الجنايات : ( وهو ما عبر عنه القانون بما عدا ذلك من المحاضر).
إن الفصل 292 نص على كونها لا تعتبر إلا مجرد بيان يمكن للقاضي أن يستأنس بها فقط . فهي لا تلزمه في شيء ولا يمكن أن يبني اقتناعه عليها عندما لا تكون مدعمة بكل ما من شأنه أن يكون لدى القاضي ما يجعله متيقنا أن الشخص المتابع أمامه هو مرتكب الجناية أو المشارك أو المساهم فيها.
ولفهم هذا الوضع المعقول الذي فرضه القانون ، لابد أن نعلم أن المشرع المغربي – مثل المشرع الفرنسي تماما – اعتبر أنه من الاستهتار بحقوق الناس أن نعتبر ما جاء في محضر ضباط الشرطة القضائية حجة قاطعة في حالة الجنايات ، لأن مجرد تصريح مثلا يحصل عليه بأية وسيلة من الوسائل لا يمكن أن يكون وحده حجة يعتمد عليها بالإيقاع العقاب على الظنين اللهم إذا وقع تدعيمه بكل ما من شأنه أن يزيد في قيمة حجيته ولذلك فإنه استعمل عبارة الاستئناس ومجرد بيان.
ثم إن الشرطة القضائية تأخذ على عاتقها – مثل ما تفعله في المحاضر المتعلقة بالمخالفات والجنح- أن تحصل على التفاصيل والجزئيات التي تمحصها وتنقب في خباياها ، حتى تهتدي إلى الخيط الموصل إلى حل اللغز وإثبات الفعل الإجرامي ضد المتابع . وزيادة على ذلك فإنها عندما تحصل على الاعترافات لا تكتفي بتسجيلها فقط ، بل تخضعها إلى تحليل دقيق بالمقارنة مع المعطيات الأخرى المسجلة لديها في التصريحات الأولى، والمعاينة والمراقبة والتفتيش ، وكل إجراء يلجأ إليه ضابط الشرطة القضائية للوصول إلى إظهار الحقيقة في تسخير الخبراء وتوظيف مختلف أجهزة الشرطة العلمية ن ومواجهات وتقارير إلى غير ذلك . فإذا وقع التوافق بين كل المعطيات المتجمعة لديه ، وبين اعتراف الظنين ، لا يتعين على الباحث الوقوف هنا وإعلان انتصاره على الشخص المستجوب ، بل عليه أن يتعمق معه في الجزئيات والتفاصيل حتى يحصل منه على عنصر ولو تافه يستطيع به أن يتوج بحثه من جهة ، وحتى لا يتمكن من الإفلات من قبضة العدالة .وكمثال على ذلك نفرض أن الشخص المستجوب من أجل قتل رضخ تحت تأثير الحجج المقدمة إليه وتضييق الخناق حوله وأفضى باعترافات هامة يمكن أن تكون لدى الباحث اقتناعا بكون هذا الشخص هو الذي ارتكب هذا القتل. لكنه يجهد نفسه في الإصرار على الحصول على جزئية ولو تافهة في نظر غير المحنك لتدعيم هذا الاعتراف . ويلجأ الباحث عادة إلى الأمور الخفية التي لا يعلمها إلا الفاعل حيث يستدرجه إلى الوصول إلى ذلك ويشد به وثاقه إما بإنجاز محضر تفتيش أو إعادة لتمثيل الجريمة أو مواجهة ، إلى غير ذلك . وأثناء هذا العمل الشاق فهو لا يظهر رغبته في الحصول على ذلك بل يظل بارد الأعصاب لا يثير الانتباه إلى مقصوده بل يستمر في عناده إلى أن يصل إلى ما يكون به شد الوثاق . لذلك عندما يعرض ملفه على قاضي الموضوع يمكن للمتهم أن يدعي أن الاعتراف انتزع منه بالقوة ولكنه لن يستطيع فكاكا من الوثاق الذي أحيط به لأنه وحده دون غيره الذي يعلمه ، وهو الذي قاد الشرطة غليه. وبهذا يستأنس القاضي بالمحضر ويعتبره إلى جانب الحجج المقدمة أمامه وسيلة قاطعة لتكوين اقتناعه لأنه إن لم يفعل فيجب عليه إبعاد كل الحجج المقدمة إليه وهذا شيء غير ممكن طالما الدفاع لم يقدم أية طعون في الكيفية التي جمعت بها هذه الحجج لأن ضابط الشرطة القضائية حرص كل الحرص على القيام بها بطرق قانونية وأنجز في شأنها محاضر لا يشوبها أي عيب أو التباس أو خرق للقانون يسبب بطلانها أو إبطالها.
. المعاينات أو المشاهدات:
إنها من الأعمال التي تعتبر العمود الفقري الذي ترتكز عليه أعمال الشرطة القضائية إلى جانب التصريحات. فهي تنجز بناء على ما يراه ضابط الشرطة القضائية ويسجله بشكل دقيق على صورة وصف يجعل القارئ ينفذ إلى أعماق المكان ويتخيل كل ما تم وصفه كأنه موجود بدوره في المكان ذاته. وهذا العمل لا يمكن لأي شخص ولو متعلم أن يقوم به إلا بعد التدريب المستمر و الاعتماد على قواعد تتم دراستها خلال مدة طويلة تفوق السنة على كل حال. فعندما يقوم الواصف بكتابة محضر المعاينة يجعل نفسه كأنه كاميرا يصور المشهد تلو المشهد ولكنه بدلا من تقديم الصورة فإنه يقدم كتابا يحول فيه الصور إلى مشاهد مكتوبة مطابقة للواقع.
والقواعد التي ينبني عليها محضر المعاينة تعتمد على الدقة والشمولية والشفافية ، وتخلو من العواطف والشعور بحيث تنصب على الواقع دون غيره، غير مبال بفظاعة ما يكتشفه الواصف وكأنه مجرد آلة تصوير لا هم له سوى أن يبلغ ما يراه إلى القارئ.
فمن ناحية الدقة يتعين عليه أن يبدأ وصف المكان بكافة المعلومات التي يمكن بواسطتها وبقراءة سريعة أن يهتدي القارئ إلى المكان الموصوف. وعندما يشرع في عمله التصويري المكتوب لا بد أن يرتب تجوله في المكان بحيث يصف الشارع أو الزنقة أو الأرض العارية أو شاطئ البحر ... ثم يصل إلى الدار أو العمارة أو الشقة أو الدكان إلى غير ذلك بطريقة يهتدي القارئ غليها بكل سهولة . وعندما يلج المكان الموصوف يدخل من بابه لا من نافذته كما يفعل اللصوص عادة. ثم يقوم بجولة داخله ليعطي صورة بسيطة عن مكوناته دون إغفال المحافظة على معالم الجريمة التي تظل دوما نصب أعينه. وبمجرد إعطائه نظرة وجيزة عن المكان يتجول بكاميراته الخيالية داخل مختلف الغرف الواحدة تلو الأخرى ، إما بدءا باليمين أو بالشمال حسب هواه ولكنه يلتزم بمراعاة الترتيب هذا ولا يحيد عنه . وهكذا يكتشف معه القارئ كل ما يعاينه داخل الغرف والأمكنة ويتتبع خطواته الحثيثة سابحا بخياله في مكان الجريمة وكأنه رافقه أثناء معاينتها.
ثم إنه أثناء هذه المعاينات ، يوظف كل الإمكانيات المادية والبشرية الممكنة لتساعده في مهامه ، بدءا بالمساعدين الذين يحيطون به وبالوسائل الموجودة عند الشرطة ن إلى تسخير الخبراء الذين يلجأ إليهم خاصة عندما لا يستطيع تفسير أمر يدخل عادة في دائرة اختصاصهم.
فهذا الطبيب الذي ينتدبه لشرح أسباب الموت مثلا ، يستطيع بحكم عمله وتكوينه أن يساعده على ذلك ، وإبعاد كل ما من شأنه أن يترك النقص يتسرب إلى المعاينة وذلك حتى وإن كان الواصف يتوفر على معلومات طبية لا يحق له أن يعتمد عليها دون اللجوء إلى أصحاب الخبرة فيها ، لأن حضورهم إلى جانبه يقوي المعلومات التي يحصل عليها ويجعلها مقبولة. فهذا الخبير في الكهرباء مثلا الذي يشرح كيف انقطع التيار أو كيف وقع استعمال الكهرباء لتشغيل آلة استعملت في الجريمة. وهذا الخبير في الحرائق الذي يهديه إلى مكان بداية الحريق والوسائل المستعملة في اندلاع النيران.....الخ.